site de Saber Habacha

Home
semiotique
roman
rhetorique
critique litteraire
poetique
roman
dialogue
grammaire
semantique arabe
semantique
polysemie
cognition
langue arabe
linguistics
About Me
Favorite Links
Contact Me
My Resume
linguistique
see my articles
rhetorique

بحث في الفنون البلاغية

العلوم المعرفية

محاولة تقريب

* صابر الحباشة

 

 

 

   تعرّف العلوم المعرفنية(sciences cognitives) بكونها تستهدف وصف مقدّرات الذهن البشري وقدراته من لغة وإدراك وربط وتخطيط ... وقد ظهرت هذه العلوم منذ ثلث قرن تقريبا في سياق علميّ موسوم بنشأة المعلوماتية وتطوّر مفاهيم وتقنيات ترتبط بالمعالجة الآلية للمعلومة. وتشكّل العلوم المعرفية، أو المعرفية كما يدعوها بعض الباحثين، حزمةً من برامج البحث متعددّة الاختصاصات علميا، تتمحور حول بعض النماذج الرئيسية والمرتكزة على بعض المفاهيم المحورية والتي توجّهها افتراضات أساسية تتصل بالطبيعة العميقة لموضوع دراستها وبالطريقة التي يجب أن تباشره بها.

   وتجدر الإشارة إلى وجود مقاربتين في العلوم المعرفنية تمثّلان تصوّريْن مختلفيْن لهذه العلوم وصفا وتفسيرا وتمثيلا للظواهر المعرفية، هما المقاربة المعرفية والمقاربة الترابطية.

ويتمّ التمييز بين المقاربتين انطلاقا من اختلاف إجاباتهما عن جملة من الأسئلة والإشكاليات:

1-    ما هي الواسطة (النظرية) التي تتشكّل التمثلات الذهنية انطلاقا منها؟

2-    كيف تنعقد الصلةُ وتستمرّ بين التمثيلات وما تمثّله؟

3-    أيّ ضرب من الحساب يُطبَّق على هذه التمثيلات؟

4-    ما هي الصلة بين التفسير "الحاسوبيّ التمثيليّ" للمعرف وتفسيره (أي المعرف) بوصفه ظاهرة طبيعية أو فيزيائية؟

5-    ماهو النظام المعرفي الموجود الذي يوفّر في الوقت ذاته صورة للنظام المعرفيّ الإنسانيّ وتمثيلا ممكنا لذلك النظام؟

والإجابات المعرفية عن هذه الأسئلة هي التالية:

في المقام الأوّل، التمثيلات الذهنية إنما هي تمثيلات لصورة الصياغات أو التعبيرات المحكمة للغة داخلية (هي لغة الفكر). ويجب أن ننظر إلى هذه اللغة باعتبارها لغة صورية مثل لغة المنطق الرياضيّ: فهي تتمتع بقواعد صرفية وتركيبية تمنحها استقلالا صوريا وقواعد دلالية تدقّق العلاقة بين تعابير اللغة والكيانات أو الوضعيات المُمَثَّلة. فإذا اعتقدنا أنّ الاحتكاك بالمحيط يسمح للنظام بتحديد القيمة الدلالية للرموز البدائية للّغة الداخلية، فإنّ قيمةَ الرموزالمركّبة التي يُنتجها النظام أثناء اشتغاله محدّدةٌ بشكل كلّيّ. إنّه التوازي المطلق بين التركيب والدلالة أو قُلْ بعبارة أخرى، إنّ السمة التأليفية (الإنشائية) للدلالة هي التي تضمن حصول تلاؤم بين التمثيلات والعالَم المُمَثَّل خلال المسارات المعرفية. هاتان هما الإجابتان عن السؤالين 1و2.

   وإنّ منطق الثلاثينات من القرن العشرين نعني أعمال ألان تيورينج وألنزو تشورش(Alain Turing and Alonzo Church ) يوفّر لنا إجابة حاسمة عن السؤال3. والواقع أننا نعلم أننا، انطلاقا من هذه الفترة، نفهم متتالية من العمليات التي تُنجزعلى رموز أو عناصر خفية (نسمّيها في الرياضيات خوارزمات) فهما حسابيا ذلك أنّ المفهوم العامّ للحساب منفصل عن الآلة وعن النظام (الذهن البشريّ) وعن إجراء رياضي مجرّد يباشر أو ينجز الحساب نحو أَمْثَلَة(idéalisation) قريبة هي قدرةٌ غير محدودة للذاكرة. وبذلك تمثّل الوظائف القابلة للحساب ضربا من "الفصائل الطبيعية" غير محسوسة بالنسبة إلى تنويعات كثيرة من التعريف. ويمكن أن نصف الحسابات التي تتحكّم في التمثيلات الذهنية بأنّها شبيهة بالحسابات التي تُصدرها آلة لتيورينج أو حاسوب رقميّ كما يمكن أن نقول اليوم.

   وليس السؤال4 في السياق الحالي سوى إعادة صياغة للمشكلة المعروفة مشكلة العلاقة بين الجسد (الدماغ، النظام المادّيّ) والذهن (مقرّ التمثيلات الذهنية) ويمكن أن يجاب عنه  بإجابة مادّيّة أحادية وغير اختزالية: فبحسب نظرية "الهُويّة العرَضية"(token identity)، كلّ حال ذهنية توافق حالا مادّيّة ولكن مقولات الأحوال الذهنية التي تستدعيها ملفوظات علم النفس العامّة لا توافق مقولات قابلة للتخصيص في معجم العلوم الفيزيائية (بمعناها الواسع، بما في ذلك البيولوجيا). هذه الأطروحة تخالف الأطروحة الأحادية الاختزالية التي تصادر على "الهويّة المَقُولية"(type identity) بين الأحوال الذهنية والأحوال المادّيّة. وتتحدّد مقولات الأحوال الذهنية أو أنماطها التي يجب أن يحيل عليها علم النفس انطلاقا من الدور الوظيفي الذي تقوم به هذه الأحوال في التمشّي المنتظم للمسار المعرفيّ. وهذا ما ولّد مصطلح الوظيفية الذي تُقصد به تارةً أطروحة الهويّة العرَضية، أو بشكل أوسع الموقف المعرفيّ. هذه النظرية التي ابتكرها الفيلسوف هيلاري بوتنام (Hilary Putnam) ونقّحها وحسّنها مع زميله جيري فودور(Jerry Fodor) ومع بعض المختصين في الذكاء الاصطناعي نحو ألان نيوال(Allen Newell)  وهربرت سيمون(Herbert Simon)  تتعرّص اليوم لنقاشات حادّة من قبل الفلاسفة ومنظّري العلوم المعرفية وحتى بوتنام نفسه أضحى يعدّها اليوم  غير كافية.

   والإجابة المعطاة للسؤال5 نعني الحاسوب أو جهاز فون نومان(von Neumann)  تمنح النظرية الوظيفية قدرا من المعقولية. والواقع أنّ الحاسوب نظام فيزيائي يتمتّع بخصيصتيْن مستقلّتيْن استقلالا. فهو من جهة نظام فيزيائيّ تطوّره محكوم بمعادلات انتقال يُفترَض أن توفّرها قوانين الفيزياء. وهو من جهة أخرى، وبالتوازي مع ذلك، جهاز معالجة للمعلومة التي يمكن أن ندعو أحوالها بأنّها حسابية دون رجوع مباشر إلى تكوينها الفيزيائيّ وتؤثّر مسارات المعالجة في هذه الأحوال الموصوفة هي نفسها  انطلاقا من قضايا أو وظائف من طبيعة غير فيزيائية ولكنها حسابية (من قبيل "إضافة س إلى ص"، "البحث في القائمة ق عن العناصر التي تبدأ بـ‘ع‘"، إلخ.) والتي يمكن اختزالها في العادة إلى عمليات تنجزها آلة تيورينج.

   هكذا يبدو من الواضح أنّه عموما  وليس انطلاقا من قوانين الفيزياء، أنّ الملاحِظ من مصلحته أن يعتبر الحاسوب نظاما من الدواليب مثلما يعتبره ساعةً على العموم، وليس نظاما ديناميا تحكمه معادلات الميكانيكا الكوانطية. وعلى هذا المستوى يتفطّن الملاحِظ إلى ما يجمع حاسوبين متّفقين على الصعيد الحسابيّ مختلفيْن من حيث التركيب المادّيّ. وهكذا نجد منهجيا مبدأ استقلال تفسيريّ لعلم النفس (منظورا إليه هنا بوصفه علم أنظمة معالجة المعلومة، والتي هي العقول البشرية أيضا) عن العلوم العصبية، واستقلال المعلوماتية والذكاء الاصطناعي عن الإلكترونيات. ومع ذلك فليس هذا الاستقلال سوى نسبيّ إذ تنتقل قيود من مستوى إلى آخر ويمكن أن تُقصى آلية وظيفية فقط لعدم إمكان تحقيقها(أو "استزراعها") ، مثل هذا الوصف لهندسة الدماغ أو لاشتغاله يمكن أن يوضع موضع مساءلة لتنافيه الظاهر مع افتراضات موضوعة في المستوى الوظيفي.

   من الجوهريّ عدم اعتبار الحاسوب ههنا مجرّد حاسب بل اعتباره نظاما يؤثّر في تمثيلات رمزية داخلية: شريط آلة تيورينج وذاكرة الحاسوب ليست أهميتهما أقلّ من أهمّية العمليات التي يُنجزها الجدول أو البرنامج، وإنّ ما يحتوي عليه الشريط أو الذاكرة ليست أعدادا، ولكنّها رموز عامّة تتحدّد فقط بانتمائها إلى لعبة رموز تحكُمها قواعد تركيبية.

   إنّ الدور الذي يقوم به الحاسوب في التفكير حول أسس العلوم المعرفية لهو دورٌ لطيفٌ. فمن جهة من الثابت أنّ مجرّد ظهوره صدم العقولَ كثيرا كما أنّه إضافة إلى عوامل أخرى تسبّب مباشرة في تولّد أفكار (قابلة للجدل أحيانا) وبرامج بحث تجمّعت وأصبح يُطلق عليها العلوم المعرفية. من جهة أخرى لا ينبغي أن يُُفهم الحاسوب اليوم بوصفه منوالا صِرفا ولا فقط مجرّد استعارة. فالدماغ والعقل البشريان يختلفان عنه اختلافا عميقا فلا يمكن اتخاذه كما هو منوالا لهما ولكن لا بأس باعتماده في بعض ضروب الوصف (وقد أخطأ الفريق الذي ظنّ استحالة ذلك تماما، مثلما أخطأ الفريق الذي رأى واهما ضرورة تجنيد كلّ الوسائل لبيان التطابق، خطأ فاحشا). ولكن، على العكس من ذلك، فإنّ النظر إلى العلاقة بين الدماغ/الذهن والحاسوب باعتبارها مجرّد استعارة يصرفنا عن الاستفادة من الخصوبة الإجرائية: إذ يُثبت الحاسوب من مبدئه ومن وجوده الانسجام المفهوميّ والإمكانية المادّيّة للروابط النظرية لجنس جديد ولمعدّات تجسّدها ، وقد تشيّد حول هذه الروابط علم للذهن، ولعلّه يتأكّد في يوم ما أنّ هذه المعدّات هي نفسها التي يشتغل بها الذهن.

   تطبيقيا، ليست الصلةُ محدودةً دائما بين الإطار الكلاسيكي الذي كنّا بصدد رسم خطوطه العريضة ومختلف برامج البحث التي تقع في نطاقه، ولكن ذلك لا يهمّ. ويبرز اختلاف صريح في بعض المظاهر ولكن في بعض المظاهر الأخرى لا يوجد اتفاق ولا اختلاف وعبر هذا الامتناع يظهر استقلال البرامج العلمية حقّا. ونقف هنا على وضعية معروفة في الفيزياء والرياضيات العلمين اللذين لا يشبهان البحوث عن أصولهما إلاّ من بعيد ولا يُقرّان بها إلاّ جزئيّا.

 

 

Enter supporting content here

هذا موقع صابر الحباشة