saber habacha

critique litteraire
Home | semantique | critique litteraire | curriculum vitae | favorite sites | Contact Me | Family Photo Album | My Resume | site de Saber Habacha

نقد الشعر
صابر الحباشة
 

                         

                       "وصية" أولاد أحـمد: شعرية التماس

                                                      *صـابر الحباشة*

 

لم يفعل أولاد أحمد في "وصيته" ما فعله أدونيس إذ لفّ إبداعه في قراطيس مختاراته الأدبية من الغرب إلى الشرق، وإن كان أولاد أحمد غير منكر- فيما نزعم- اقتباسه العنوان عن "ريلكه" الشاعر العالمي، فإنه جمح به لينشئ مفارقة طريفة من تقليعاته وبدعه الشعرية/ السلوكية الكثيرة إذ أنشأ ديوانا لا تحتمل خفته. يذوب كالثلج صيفا ويجري على اللسان كما يجري الدهان. لقد أتقن صاحبه توظيبه حتى استوى نثرا يضحي ببعض "مواصفات الشعر التقليدية" لكي ينتشل "روح الشعر" من دركات المتشابه وأزيز اللغط.

   بأسلوب ساذج ملون، يخترق الخطاب الشعري "الأحمدي" نفايات الشعر المستهلك بارعا في نزقه ماردا في غوايته لا يأتيه الحق من بين يديه ولا من خلفه. يضج بحمى قلب الأوضاع. ورسم الدهشة وصناعة المكر.

   لم يترك للكلاسيكيين الموتى دون إن يعوا والرومنطقيين المجانين دون إن يستيقظوا لم يترك لهؤلاء ولا لأولئك فرصة الإرتداد، قد قطع عليهم طريق العودة وثبتهم على "خارطة طريق" موت الشعر: إعدام الأغراض عبر السخرية منها. لقد أنشأ أولاد أحمد بيانه الشعري بشكل يشرذم فيه ما تكلس من السائد ويجرح من يجني من الشعر ويجني على الشاعر. إنه يصنع تفلسفه الآبق وينتقي شواهده المنتخلة بما يقطع على النقاد دابر الكيد للشاعر كيدا لا تكاد ترمي صاحبك بالزندقة حتى يزين إليك أمر اتباعه وقد حفك بتقريرات غاية في السذاجة الماكرة:

    "ما دمنا نحترم قواعد النحو فإن الله سيظل موجودا؟"(الوصية، ص19) إنه كوجيتو جديد؟ يقرن تطبيق النحو بالاستدلال على الخالق. كيف يتصرف هذا "السرطان اللغوي" فيدمر العلاقات المعهودة ويشيد منزلقات تهش لها النفس ويسيل لها لعاب الفكر؟

    يجيء الشعر في هذا الديوان من سبيل النثر: بل إنها لا توجد أجناس، بل إن العناوين توغل في المخاتلة ولا يقدر صائغ الكلام على حد الشعر إلا إذا نصب ذلك الحدَّ سورا ينتحر عليه.

 هوية الشعر الإشكالية في نظر أولاد أحمد:

  "ما الشعر في النهاية؟

   لنقل...

  إنّه تخمين لغويّ

  هدفه...

  إعانة السلطة على السقوط" (الوصية، ص20)

   يتراوح الخطاب بين الإنشاء والخبر (كما لا يحب أن تحوطه البلاغة بأبوابها على غرار النحو) من الاستفهام عن الماهية إلى اقتراح جواب يشترك فيه مع المتكلم غيره، محتوى ذلك الجواب يرد مثبتا من حيث الصيغة (خبر طلبي مؤكد بأداة واحدة) ومذبذبا من جهة محتواه القضوي (تخمين) أي هو أمر جائز محتمل قد يكون وقد لا يكون. وينتقل الشاعر إلى بيان العلة الغائية بعد استفراغ العلة الماهوية للشعر: فهو خطاب أداة لا للبناء بل للهدم ولكن دون استعمال قوة فهو يساعد "السلطة على السقوط" فالشاعر يستعمل السلطة معرفة بالألف واللام لكي تأخذ المعنى الحرفي السلطة السياسية، ولكن يسعه الكلام لكي يدعي أنه يقصد أي سلطة (سلطة النحاة، الفقهاء، النقاد...) أي كل من يحتكر قوة ما سواء كانت معرفية أو اقتصادية أو ...

   قوة الخطاب الشعري أنه يقف على تحوم الواقع الفكري مجردا لسانه من أسطول المفاهيم الفلسفية العجماء أو المصطلحات العلمية الجرداء أو الأدوات القانونية الصماء، ليتسمع إلى نداء الأقاص، أصوات الذات المصطخبة في تراوحها بين تحقيق ارتجافة الوليد واحتضار الفقيد. لكان أولاد أحمد يغمس كلامه في زيت منزوع البركة ليقف على مداهنات الخطابات اللغوية السائدة. إنه يصدقنا القول إذ يكذب، فيقينا شر الإنكباب على مفارقة الكذاب كرة أخرى.

   كتب أولاد أحمد كتابا أنيقا في عيوبه شفافا في كثافته خفيفا في ثقله يحمل معاناة فنان يخلص في خيانة حرفته إذ يفضح سرقاته العارية ويحتفل بالموت ويدون وصيته يسوي في سطرين متداوليين متوازيين بين القداسة والنجاسة:

  "أعلى من الملائكة... بلا شك

  أعلى من بول الأطفال وهم و يرسمون أقواسا قزحية

  تحت سماء خرساء "(الوصية، ص 113)

إنه يصنع شعرية التماس بين الفتي والسياسي، بين الشعري والشرعي، منتصرا لشق المعادلة الأوّل دائما.

 

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

قلب الاستعارة والمسح التناصيّ عند يوسف رز وقه

أزهار ثاني أوكسيد التاريخ.. قصيدة تتلاعب بالمداليل

*صـابر الحباشة*

ـــــــــــــــــــــــــــــ

   هل ترك بودلير مكانا شعريا يستطيع أن يستبدل بـ"أزهار الشر" أزهارا أخرى تذكرنا بالشاعر الفرنسي وتنأى بنا عنه في الحين نفسه؟

لقد جمع يوسف رزوقة في "أزهار ثاني اوكسيد التاريخ" خلطة عجيبة ركّبت مضافا على مركب إضافي، هو ذاته من مبتكرات الشاعر: فنحن ندهش لاجتماع (ثاني اوكسيد) بـ(التاريخ) ولا تنقضي دهشتنا تلك حتى تدخل عليها دهشة أخرى من نسبة (أزهار) إلى المركب السالف إنشاءً، اللاحق تقبُّلا.

ولعل القارئ، وقد استبدت به "الدهشات" يجنح إلى الديوان يطلب تعليلا ويركن إلى المتن يرنو أن يشفي غليلا. وإذا به يساق إلى سلسلة من صنائع قولية ديدنها الإفجاء والإغراب والغواية. إنها فتنة الكلام، وقد دار على غير مألوف الدوائر وفاض على معتاد المحابر. مراد هذا الكلام قُدّ من شبق الانفلات عن المسارب الرابضة والمسالك الجاهزة، فإذا هو نص يجامع أنواع القول الأدبي وينسل بينها خيط جامع يربط المسرحية بالشعر، بالقصة، بالفيلم،... متعة بليغة بالغة إلى أقاصي النفس عابرة لمواطن الحس فقد توزع الجميل في النص لكي لا يهمل ركنا وحتى لا يُغفِل شاردة ولا واردة.

   وكأن هندسة النص ابتُنيت في قالب من الجمال ثم رُشّت المفردات عليه رشّا. ولكن هل "الجمال" المقصود هو المقيس عليه المعتاد عليه، أم هو نسيج طريف وبدعة غير مسبوقة؟

   كيف لا يستقيم سؤال كهذا وقد ارتبط الشاعر باللغة ارتباطا أساسه الخيانة وقوامه التمرد فقد شعر صاحبنا بالاختناق اللغويّ:

( لغتي، تضيق، تضيق في قاموسها

ويفيض منسوب المياه على حواشيها..

لتنهض وردة الكلمات من كابوسها.

ما نسبة الأملاح في لبن العبارة؟

أسأل اللغة التي اضطجعت لإرضاع اليتامى

وهي تكشف صدرها للعابرين) (ص26)

يتلاعب الشاعر بالمداليل والمداليل الثواني لدوال مفرداته. فتسمع الصياغة القولية التي أتاها بقراءتين اثنتين ممكنتين، كل ممكنتين، كل مرة على الأقل. فالقاموس هو البحر وقد رسّخ الاستعارة بقوله "منسوب المياه". والحواشي هي الضفاف، ضفاف شاطئ البحر وهي ترشيح ثان للاستعارة ذاتها. ومعلوم أن استعارة القاموس – في العادة- قد اتخذها بعض مؤلفي المعاجم لإطلاقها على مؤلفاتهم قصد الإشارة إلى الإحاطة والاتساع فإذا بالشاعر يعمد إلى عكس مسار الاستعارة: من الثقافة إلى الطبيعة وقد كانت تجري ضد ذلك. فكأنّ احتفاء الشاعر بالمعنى الأول للألفاظ (قاموس، حواش) قد أدى به إلى تركيب قوله تركيبا ينتظم فيه المعنى الحقيقي والمعنى المجازي بشكل استبدالي يعيد الترتيب بشكل ضدي فتنقلب الاستعارة إلى واقع وتُضحي الحقيقة خيالا. أليس ذلك من مشاكلات القلب كما جرى في البلاغة التقليدية في التشبيه المقلوب أو في حسن التعليل مثلا؟

   أم لعله من وجه آخر، ميسم اندماج الشاعر في بلاغة ما بعد الحداثة وقد كسّرت حواجز العقل الجازمة بين الوهم والحقيقة؟

   وهذا يجرنا إلى النظر في الاستفهام الاستخفافي الاستهزائي الذي أجراه الشاعر (ما نسبة الأملاح في لبن العبارة؟). فهو يثور في محاكاة ساخرة على طرائق العالمِ الوضعي في مقاربة مواضيعه فيعمد إلى النظر في الأرقام والنسب والكميات، فيغدو العالم في هذه النظرة العلمية محض معادلات ونسب وجداول إحصائية جافة جوفاء يفقد فيها الشيء الطبيعي قيمته وماهيته ليختزل في معادلة: الماء= ذرتان من الهيدروجين+ ذرة من الأوكسجين.

أليس العلم جائرا؟

أليس من وظيفة الشاعر أن يشوّش نظام العلم ويُسري في قوانينه قانونه الخاص ألا وهو قانون الفوضى وسُنّة الاضطراب؟

ويستعين الشاعر في إنجازه هذا بنزعته الفطرية الإحيائية (أسأل اللغة التي اضطجعت لإرضاع اليتامى وهي تكشف صدرها للعابرين) إنه شعور بأمومة اللغة التي أهلت الإنسان ليسكن في الأرض وقد عُلِّم الأسماء كلها. فاللغة هي سبب وطيد لحسن إقامة الكائن البشري بأمور الوجود الفاعل في الكون ففيها شفاء السائلين وإن غلّفت أسئلتهم- كالشاعر- سخرية مرّةً وتهكما ماردا. وبين "لغتي" في صدر المقطع و "اللغة" في ذيله، خروج آلة الكلام من الذات المالكة إلى موضوع مخاطب، اكتسب صفة العاقلية وجوبا لتكون موضع مساءلة. ثم إنّ في الجمع المفارقيّ بين القاموس وما يدل عليه من اتساع   "تضيق" دلالة ابتعاد الإسم عن المسمى وحصول الفجوة بينهما: فالقاموس برغم ما يفترض فيه من الشمول في العادة قد أصبح ضيقًا. وليس بعيدا أن يقصد الشاعر التعبير باللغة عن حدود اللغة، عن قصورها وهذا يُحسب لها، فهي تسمح لمستعملها بأن يجلدها ببعضها: وذلك عبر الإفضاء إليها من ورائها باعتماد الخطاب الميتالغوي.

لم يكتب يوسف رزوقة خطابا على الخطاب فقط بل عمد إلى نقد ذاتي توسل له بلغة شارحة مكنت اللغة من إن توجد كائنا تعلقت به أفعال (تضيق، تنهض، اضطجعت، تكشف) وهي أفعال مذكروة تستدعي أخرى ضمنية ممكنة (تتسع، تنام، أفاقت، تخفي) ولعل الفعل الأول الضمني- الذي استنتجناه- "تتّسع" يذكرنا مع الفعل المذكور "تضيق" بقول للنِفّريّ أصبح الاستشهاد به كثيرا: "إذا اتسعت الرؤيا، ضاقت العبارة" ولعل عبارة (كابوس) في نص رزوقة يذكرنا بموقف نقدي فنّيّ من رؤيا المتصوفة. إن الملمح التناصّيّ أقوى ملامح هذا المقطع وإن اقترن برؤية إحيائية (ذاتية تصطنع السذاجة وصاحبه نقد لإمبريالية العلم ونقد ذاتيّ أجراه الشاعر على خطابه.

 

Enter supporting content here

موقع صابر الحباشة