تنظيم الاشتراك
الدلاليّ للفعل العربيّ
مقاربة عرفانية
- مقدمة
- الباب الأول: المشترك الفعلي
وثنائية معلم / منتقل
- الباب الثاني:
المشترك الفعلي والأوائل
الدلالية
- الباب الثالث:
المشترك الفعلي والنماذج
العرفانية العليا
- الخاتمة
النظام الدلالي:
تعالج
العلاقة بين "الألفاظ
المشتركة" و"المعاني الملتبسة" في سياق المقاربة التقليدية
وفق ثنائيات ثابتة: الإطلاق
والتعيين، الترادف والتضاد،
التواطؤ والتباين... وذلك
في سياق كون دلاليّ متناسق
مضبوط لا يتطرق إليه انحراف
إلاّ وجد طريقه إلى كشف
السبيل إلى حلّه وإرجاعه
إلى "سواء السبيل".
ومن هذا المنطلق
عرفت دراسة المشترك تقليديا
ضربا من الإجماع على تنزيلها
منزلة الظاهرة العرَضية
التي يجب إخضاعها إلى
المنوال العامّ، وهو
ما اختصره الأصوليون
والمناطقة في عبارة مفادها
أنّ الأصل هو اللفظ الواحد
للمعنى الواحد، ولكن
لمّا كانت الألفاظ متناهية
والمعاني غير متناهية،
فقد تمّ اللجوء إلى الاشتراك
ليمتدّ سلطان اللغة إلى
معان كثيرة لم يكن ليطولها
لولا اتساع اللفظ ليدلّ
على أكثر من معنى. يقول
السيوطي: "ومن الناس من
أوْجب وقوعَه - قال: لأن
المعانيَ غيرَ متناهيةٍ
والألفاظ متناهية، فإذا
وُزِّع لزِم الاشتراك." يقول الغزالي:" إنَّ الْأَلْفَاظَ
الْمُتَعَدِّدَةَ بِالْإِضَافَةِ
إلَى الْمُسَمَّيَاتِ
الْمُتَعَدِّدَةِ عَلَى
أَرْبَعَةِ مَنَازِلَ،
وَلْنَخْتَرِعْ لَهَا
أَرْبَعَةَ أَلْفَاظٍ
وَهِيَ : الْمُتَرَادِفَةُ
وَالْمُتَبَايِنَةُ
وَالْمُتَوَاطِئَةُ
وَالْمُشْتَرَكَةُ". ويبيّن الغزالي أنّ الاشتراك
لا يعني الوقوع في التناقض
بالضرورة: "فَإِنْ اتَّحَدَ
اللَّفْظُ دُونَ الْمَعْنَى
لَمْ يَتَنَاقَضَا".
غير
أنّ تقسيمات العلاقات
بين الألفاظ والمعاني
مهما انضبطت فإنّها قد
تعترضها بعض الحالات
غير النظامية التي تشذ
عن الانتماء الصريح إلى
أحد تلك الضروب. بل قد تُحمل
اللفظة على بابين، فلا
يمكن حشرها بالإطلاق
في باب حتى نعرضها على
السياقات التي ترد فيها.
في العناية
بالمشترك
يكاد
المشترك الفعليّ يكون
مهملا لا من حيث الإشارة
إلى وجوده، بل من حيث دراسته،
في المدوّنة التراثية،
إذ يعتبر النحاة أنّ الأسماء
هي أكثر الألفاظ، والاشتراك
فيها أقلّ من الحروف والأفعال،
يقول السيوطي: "وذهب بعضهُم
إلى أنّ الاشتراك أغْلبُ
- قال: لأنّ الحروفَ بأسْرِها
مشتركة بشهادة النُّحَاة،
والأفعال الماضية مشتركةٌ
بين الخبَر والدُّعاء؛
والمضارعَ كذلك، وهو
أيضاً مشْتَرَكٌ بين
الحال والاستقبال، والأسماء
كثيرٌ فيها الاشتراك؛
فإذا ضَمَمْناها إلى
قسمي الحروف والأفعال
كان الاشتراكُ أغلبَ". غير أنّ معنى الاشتراك،
بين الأفعال في هذا الشاهد
يبدو مقصورا على ناحيتي
الدلالتين البلاغية والزمانية،
دون ناحية الدلالة المعجمية.
فإذا
قلّبت النظر في أمثلة
الاشتراك وجدتها اسمية
جميعها أو أغلبها، فكأنّ
الاشتراك الفعليّ مثّل
مسكوتا عنه، ولكن ترى
لماذا؟
لا نكاد نقطع
بجواب حاسم على هذا السؤال،
ولكن قد يكون مردّ ذلك
إلى خصوصية الفعل: فالفعل
عنصر لغويّ مركّب، وأغلب
سياقات الحديث عن الاشتراك
ترد في التعريف والتمثيل،
ومعلوم أنّ البساطة مطلوبة
في هذه المواضع، فلذلك
لم يُعتدَّ باتخاذ الفعل
مثالا أو بدراسته في نطاق
المشترك. ثمّ إنّ الفعل
يكوّن جملة كاملة، ما
دام الفاعل مستكنا في
الفعل، فمن ثمّة يصبح
الحديث عن اشتراك في الفعل
إنّما هو اشتراك في جملة
كاملة (فعل + فاعل) وهذا يخرج
عن الحدّ المرسوم تراثيا،
وهو النظر في علاقة الاشتراك
بين الألفاظ المفردة
ومعانيها؛ فالفعل يحتوي
بالفعل [لا فقط بالقوة]
على علاقة إسنادية، ومن
ثمّ فلا غرابة أن يُتخلّى
عن إيراده في معرض تعريف
المشترك.
ولعلّ من أسباب
عدم اعتماد الفعل تمثيلا
في دراسة المشترك، مردّه
أيضا إلى غياب تصوّر لدراسة
المشترك يعوّل عى النظر
في هذا المبحث من منطلق
أقسام الكلام، فإذا غاب
هذا التصوّر، فلا غرابة
في إهمال دراسة المشترك
الفعليّ.
هذا فضلا عن
حصول ضرب من القطع في دراسة
المشترك، يتمثل في النظر
إلى هذه الظاهرة نظرا
يقصرها على الناحية المعجمية
الدلالية، ولا يربطها
بأبعاد بلاغية وتداولية
وتواصلية ومعرفية... تثري
الدراسة بمنظورات متميزة.
محاور الدراسة:
المشترك الفعليّ في العربية
1-
المشترك
الفعلي وثنائية مَعْلَم
/ منتقل
بخلاف ما ادّعته كاترين
كربرات أوريكيوني من
أنّ "ظاهرة المشترك، تضطرّنا
إلى اعتماد التحليل التجزيئيّ
للمعنى"[7]، فإنّ دراسة
المشترك لم تشهد ركونا
إلى التحليل السيمي الذي
اقترحه بواتييه في الخمسينات، بل حصلت تغييرات منهجية
كبيرة. من ذلك أننا ندرس
المشترك وفق منوال دلاليّ
عرفانيّ يقوم على مفهوم
الطراز، وتنتظم العلاقة
بين هذه العناصر وفق علاقات
القرابة بينها وبين الطراز،
وهو ما يدعوه علماء الدلالة
"السلّم الطرازيّ"(échelle
de typicalité) لا وفق اشتراك تلك العناصر
في جملة من الخصائص المشتركة
فيما بينها.
غير أنّ ما
ذكر آنفا، من كون أقرب
العناصر إلى الطراز هي
أكثرها وضوحا في الانتماء
المقوليّ، أمر يقبل النقد،
لا بل إنّ مفهوم الطراز
ذاته ليس حلاّ إعجازيّا
لمشاكل علم الدلالة المعجميّ،
على رأي كلود حجاج.
وإذا حاولنا
النظر من منطلق تصنيف
زمرة أكل وفق ثنائية المعلم
والمتنقل التي اقترحها
لانغكير، ألفينا أنها على النحو
التالي:
1-
أكل زيد خبزا.
2-
لا
تستعمل لغة أكلوني البراغيث.
3-
أكلتهم الأرض. (ابن
منظور، لسان العرب )
4-
رجلي
تأكلني.(عامّيّة)
5-
فلان
أكلني في مالي.(عامّيّة)
6-
فلان
أكلني في عرقي. (عامّيّة)
7- أكلت
طريحة. (عامّيّة)
فالمثال 1 استعمل
فيه الفعل (أكل) استعمالا
نظاميا يوافق المعنى
المعتاد في المعجم ويستجيب
للدلالة الأولى التي
لهذا الفعل. أمّا الاستعمال
في 2 فيدلّ على معنى مخصوص
وهو استعمال الفعل (أكلوني)
في صيغة لهجة معينة، بشكل
يجعله عَلَمًا على تلك
اللهجة. فهنا يتجاوز الفعل
دلالته الأصلية ليصبح
معبّرا عن دلالة مطلقة
لعلّها قريبة من الميتالغة،
حيث لا يدلّ اللفظ على
ما هو خارج نظام اللغة،
بل هو يدلّ على اللغة ذاتها،
منعكسا عليها. أمّا في
3 فالدلالة تتعلق بالموت
نظرا إلى طبيعة الآكل
(الأرض) فتمت استعارة الأكل
للموت والقبر. في حين يدلّ
استعمال (أكل) في 4 حصول ضرب
من الحكّة بسبب تخدّر
الرِّجْل. أمّا (أكل) في
5 فتدل على عدم ردّ المال
على صاحبه فكأنّه أكله.
وفي 6 يدلّ استعمال (أكل)
على استغلال عامل وعدم
دفع أجرته. في حين يدلّ
استعمال (أكل) في 7 على وقوع
الضرب على المتكلّم.
طبعا
أوردنا في الأمثلة السابقة
بعض الاستعمالات العامّيّة،
نظرا إلى رغبتنا في الإحاطة
بأكبر عدد ممكن من الاستعمالات
الجارية لهذا الفعل. والحاصل
أنّ (أكل) فعل متعدد الدلالات
وذو استعمالات متعددة
بحسب السياقات. ويمكن
التفطن إلى وجود معنى
جامع (أصلي) تنبثق عنه سائر
المعاني.
أكل: وجود قائم
بالأكل
وجود مادّة مأكولة
وجود علاقة بين الآكل
والمأكول له (قد تكون إيجابية
من قبيل:
8- أكل زيد في بيتي
وذلك في سياق
قِرى الضيف، وهو مثمّن
قيميا، بحسب لمنظومة
القيمية العربية، وقد
تكون سلبية من قبيل 8 و9 و10).
ويمكن دراسة
أمثلة أخرى:
9- وَلاَ تَأْكُلُواْ
أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم
بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ
بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ
لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً
مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ
بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ
تَعْلَمُونَ [البقرة
: 188]
فقد ورد في تفسير
ابن كثير:" قال علي ابن أبي
طلحة، وعن ابن عباس: هذا
في الرجل يكون عليه مال،
وليس عليه فيه بَيِّنة،
فيجحد المال ويخاصم إلى
الحكام، وهو يعرف أن الحق
عليه، وهو يعلم أنه آثم
آكل حرامٍ". فأكل الأموال، حسب ابن
كثير، يعني جحدها.أمّا
محمد الطاهر بن عاشور
فيقول في تفسيره "التحرير
والتنوير": "والأكل حقيقته
إدخال الطعام إلى المعدة
من الفم وهو هنا استعارة
للأخذ بقصد الانتفاع
دون إرجاع؛ لأن ذلك الأخذ
يشبه الأَكل من جميع جهاته
، ولذلك لا يطلق على إحراق
مال الغير اسم الأكل ولا
يطلق على القرض والوديعة
اسم الأكل ، وليس الأكل
هنا استعارة تمثيلية؛
إذ لا مناسبة بين هيئة
آخذ مال غيره لنفسه بقصد
عدم إرجاعه وهيئة الأكل
كما لا يخفى". ويفصل البغويّ في تفسيره
ضروب الأكل قائلا:" والأكل
بالباطل أنواع، قد يكون
بطريق الغصب والنهب وقد
يكون بطريق اللهو كالقمار
وأجرة المغني ونحوهما،
وقد يكون بطريق الرشوة
والخيانة ".
10- يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ
تَأْكُلُواْ الرِّبَا
أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً
وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ [آل عمران
: 130]
11- وَآتُواْ الْيَتَامَى
أَمْوَالَهُمْ وَلاَ
تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ
بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ
أَمْوَالَهُمْ إِلَى
أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ
كَانَ حُوباً كَبِيراً
[النساء : 2]
12- يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ
تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً
عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ
وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ
إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ
رَحِيماً [النساء : 29]
نلاحظ أن معنى الأكل
في الأمثلة من 9 إلى 12 هو
الأكل المجازي في حين
أنّ معنى الأكل في 13 و14 هو
الأكل بمعناه الحقيقيّ.
انظر:
13- وَمَا لَكُمْ
أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا
ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ
عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ
لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ
إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ
إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً
لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم
بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُعْتَدِينَ [الأنعام
: 119]
14- وَلاَ تَأْكُلُواْ
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ
اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ
وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ
الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ
إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ
لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ
أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ
لَمُشْرِكُونَ [الأنعام
: 121]
بل إنّ هاتين
الآيتين الأخيرتين من
المتشابه، فضلا عن ورودهما
في السورة ذاتها متجاورتين،
مما يحقق انسجام السياقين
المقاميّ والمقاليّ.
ويمكن النظر في بعض الأمثلة
التي توضح بعض ضروب العلاقة
الرابطة بين المعلم والمتنقل:
15- خرج زيد من
البيت.
16- خرج المريض
من الإغماء.
17- خرج من عقله.
(عامّيّة)
18- خرج بيده على
رأسه. (عامّيّة)
19- خرج وقتُ الصلاة؟
20- خرج على النظام
القائم.
فالمتنقل يبني
علاقة بالمعلم تختلف
باختلاف هذا الأخير،
وباختلاف المنظور الذي
يُنظر من خلاله إلى حدث
الخروج. ففي(15) كان الخروج
من معلم – مكان، أمّا في
(16) فالخروج من معلم – حالة
(حالة صحية: مرض، عرَض،
...)، وفي (17) كان الخروج بمعنى
مجازيّ يعبّر عن جنون
المتنقل، وفي (18) يعبّر الخروج
في هيئة معيّنة هي كناية
تدلّ على عدم حصول المتنقل
على نصيب أو حقّ أو مكسب.
وفي (19) يدلّ الخروج على انتهاء
الوقت، وهو ما يعني أنّ
من سيُؤدّي تلك الصلاة
سيقضيها فائتةً، فقد
فاته أن يُصلِّيَها لوقتها.
أمّا في (20) فقد تمّ الخروج
على هيئة اعتبارية، فهي
يعني الثورة والعصيان
وشقّ عصا الطاعة.
والملاحظ
أنّ الفاعل في الأمثلة
من (15) إلى (18) و(20) بشريّ (مع أنّه
قد يكون حيوانا أليفا
في (15)) أمّا في(19) فالفاعل زمنٌ،
ممّا يدلّ على مجازية
العلاقة الإسنادية بين
الفعل (الخروج) والفاعل
(وقت الصلاة) لأنّ الوقت
في سيولة، ولكن يمكن التمثيل
على هذا التصوّر بالشكل
التالي:
................. ›ــــــــــ›........................
حان وقت الصلاة / دخل وقـت الصـلاة / خرج وقت الصلاة
والطريف في
المثال (19) أنّه يربط بين
فعل (خرج) وهو ذو دلالة مكانية
من حيث المعنى القاعديّ
الأصليّ، و(وقت) وهو اسم
يدلّ معجميّا على الزمان.
وباستقراء
الأمثلة السابقة نتبيّن
أنّ الخروج يتمحور حول:
1* خروج من حقل
إدراكيّ
2* خروج من حقل
عرفانيّ
3* خروج من منطقة
مراقبة أو صلاحية
4* تغيّر عن حال
عاديّة
ولعلّ مثل هذه
الملاحظات تشكّل لبنات
لرسم الخريطة العرفانية
لمتكلّمي اللغة العربية
تساعدهم على تبيّن المعاني
المحتملة للأفعال القائمة
على الاشتراك من قبيل
فعل (خرج).
2- المشترك الفعلي
والأوائل الدلالية
يمكن
النظر إلى وجود أفعال
أساسية تمثل الحصيلة
الدنيا من الأفعال التي
ينطلق الاشتراك منها
وعنها تتفرع الاستعمالات.
فمن هذه الأفعال نذكر:
عَلِمَ، فعل، رغب، وصل،
قدر، قال، اختبر، فكَّر
وقد استقينا
هذه القائمة من الأفعال
الأوّلية من محاولات
بعض علماء الدلالة الذين
حاولوا استخراج قائمة
مستقصية من الأوائل الدلالية
في اللغة. ويرى بعض الباحثين أنّ
الأوائل الدلالية من
الكليات المتعالية على
اللغات، ومن ثمة فهي أكثر
تجريدا من مفاهيم أخرى،
كالأركتيب (archétype) الذي
اقترحه ديكليه.
إنّ
الأوائل الدلالية تتحقق
في شكل كلّيّات معجمية، من ذلك:
21- قال زيد قولا
سديدا.
22- قال زيد بمقالة
المعتزلة في قضية أفعال
العباد.
23- قال زيد ولم
يفعل.
24- قلت في نفسي:
سأذهب في نزهة غدا.
25- قالوا بصوت
واحد: لا نوافق على ذلك.
26- قال الله تعالى:
"قل هو الله أحد".
ففعل (قال) في
الأمثلة (من 21 إلى 26) لا يدلّ
دلالة واحدة، بل دلالات
متعددة. فقال في (21) بمعنى:
تلفّظ، أمّا في (22) فبمعنى
اعتقد، وأمّا في (23) فتعني
عدم الفعل، وفي (24) تعني كلاما
نفسيا [دون إصدار صوت في
الغالب]، وفي (25) تدلّ على
الكلام بشكل جماعيّ بصوت
مسموع. أمّا في (26) فتدلّ
قال الأولى على نسبة الكلام
إلى الله، أمّا قُلْ،
في الآية، فهي جزء من كلام
الله.
طبعا،
فعل القول من أكثر الأفعال
اشتراكا، في اللغات ومن
بينها اللغة العربية،
لكثرة وروده وتشعّب وجوهه
وأدائه معاني غزيرة .
3- المشترك الفعلي
والنماذج العرفانية العليا
تقع
الدلالة الثابتة أو النموذج
العرفانيّ الأعلى أو
المنوال العرفانيّ المؤمثل
أو المشهد أو الخطاطة
(schema) فوق اللغة؛ فهي تتعالى على الحقيقة
والمجاز، إذ يقعان في
اللغة. ويمكن لنا أن ننظر في التحليل
العرفانيّ باعتباره قائما
على الإدراك السابق للتقسيمات
البلاغية أو النحوية
ذات البعد الميتالغوي،
فقوام التحليل العرفانيّ
هو تسليط الضوء على المبادئ
الدلالية الطبيعية (لا
الصناعية : المنطقية –
النحوية – البلاغية ...). فالمنوال
العرفانيّ المؤمثل لـ"أكل"
هو – كما يقول ابن عاشور
– " إدخال الطعام إلى المعدة
من الفم" غير أنّ الأمثلة المضروبة
(من 2 إلى 7)، أعلاه، لا يكفي
فيها القول إنّ المعنى
الثابت كافٍ لتحليل دلالة
(أكل) في الأمثلة المذكورة،
إلاّ أن نستعين بهذا المنوال
العرفانيّ المؤمثل في
رصد علاقات التشابه الأسريّ
بين الدلالات المتفرّعة
عنه.
إنّ النحو العرفانيّ
يرتكز - كما يرى ديكليه
- على تحديد الثوابت العرفانية
في اللغة. ففعل (couler) في اللغة الفرنسية
يدلّ على معنى طرازيّ
مؤمثل رغم تعدد معانيه
يتمثل في وجود سائل يتغير
مكانه. والأمثلة التي
تضرب في هذا السياق هي:
أ- سال الماء،
حيث يوجد تدفق للفاعل
وهو الماء "l'eau coule"
ب- سالت المزهرية،
"le vase coule"والمقصود
هو سيلان الماء الذي تحتوي
عليه المزهرية، فالفاعل
النحويّ ليس هو الذي حصل
منه السيلان.
ج- سال
المركب (غرق) "le bateau coule"فالمقصود
هو دخول الماء إلى المركب
مما تسبب في إغراقه.
ويمكن أن نلحق
بهذه الأمثلة مثالا عربيا،
اعتمده عبد القاهر الجرجانيّ،
في بعض تحاليله:
"والخاصّيّ
النادر الذي لا تجده إلا
في كلام الفحول، ولا يقوى
عليه إلا أفراد الرجال،
كقوله، من الطويل:
وسالت بأعناق
المطي الأباطح
أراد أنها سارت
سيراً حثيثاً في غاية
السرعة، وكانت سرعة في
لين وسلاسة، كأنه كانت
سيولاً وقعت في تلك الأباطح
فجرت بها. ومثل هذه الاستعارة
في الحسن واللطف وغلوّ
الطبقة في هذه اللفظة
بعينها قول الآخر، من
البسيط، :
سالت عليه شعاب
الحيّ حين دعا ... أنصاره
بوجوه كالدنانير
أراد أنّه مطاع
في الحي، وأنهم يسرعون
إلى نصرته، وأنه لا يدعوهم
لحرب، أو نازل خطب إلاّ
أتوه وكثروا عليه، وازدحموا
حواليه، حتى تجدهم كالسيول
تجيء من هاهنا وهاهنا،
وتنصبّ من هذا المسيل
وذلك، حتى يغص بها الوادي
ويطفح منها".
ولعلّ المعنى
القاعديّ المذكور أعلاه
لفعل (سال) لا ينطبق على
ما قاله الجرجاني لأنّ
قوام أمثلته على الاستعارة،
ومن شرط الاشتراك أن تدلّ
اللفظة على معناها لا
على جهة المجاز، والاستعارة
من المجاز، إلاّ إذا أخذنا
برأي ابن الأثير في هذا
السياق، يقول:"فإن الواضع
لهذه اللغة العربية التي
هي أحسن اللغات نظر إلى
ما يحتاج إليه أرباب الفصاحة
والبلاغة فيما يصوغونه
من نظم ونثر، ورأى أن من
مهمات ذلك التجنيس، ولا
يقوم به إلا الأسماء المشتركة
التي هي كل اسم واحد دل
على مسميين فصاعدا، فوضعها
من أجل ذلك، وهذا الموضع
يتجاذبه جانبان يترجح
أحدهما على الآخر وبيانه
أن التحسين يقضي بوضع
الأسماء المشتركة، ووضعها
يذهب بفائدة البيان عند
إطلاق اللفظ، وعلى هذا
فإن وضعها الواضع ذهب
بفائدة البيان، وإن لم
يضع ذهب بفائدة التحسين،
لكنه إن وضع استدرك ما
ذهب من فائدة البيان بالقرينة،
وإن لم يضع لم يستدرك ما
ذهب من فائدة التحسين،
فترجح حينئذ جانبا الوضع
فوضع.".
أبو
الفداء إسماعيل بن عمر
بن كثير القرشي الدمشقي
[ 700 -774 هـ ]، تفسير القرآن العظيم،
تحقيق سامي بن
محمد سلامة، دار طيبة
للنشر والتوزيع، الطبعة
الثانية 1420هـ - 1999 م، ج1، ص521.
أبو محمد الحسين بن مسعود
البغوي [ ت 516 هـ ]، معالم التنزيل،
تحقيق محمد عبد الله النمر
- عثمان جمعة ضميرية - سليمان
مسلم الحرش، دار طيبة
للنشر والتوزيع، الطبعة
الرابعة، 1417 هـ - 1997 م، ج1، ص210.