site de Saber Habacha

Home
semiotique
roman
rhetorique
critique litteraire
poetique
roman
dialogue
grammaire
semantique arabe
semantique
polysemie
cognition
langue arabe
linguistics
About Me
Favorite Links
Contact Me
My Resume
linguistique
see my articles
dialogue

حوار مع أبي يعرب المرزوقي

المفكر أبو يعرب المرزوقي: في حوارشامل

حول فلسفة ابن خلدون والمثقفين العرب

أجرى الحوار: صابر الحباشة

 

   لم نكد نصدّق أنفسنا عندما علمنا أنّ كلية الآداب بجامعة البحرين ستستضيف بمناسبة تنظيم ندوة علمية حول ابن خلدون في ذكرى المئوية السادسة لوفاته، الفيلسوف والمفكّر أبا يعرب المزروقيّ، أستاذ الفلسفة بالجامعة التونسية، فهو فيلسوف ذو خطّ متميز في الفكر العربيّ المعاصر، لا يتميز بحصافة رأيه وجرأته، فحسب، بل وكذلك، بعمق تفكيره ونظره في "الكلّيات".

ورغم ذلك فهو غزير الحركة الفكرية، وواسع الاطلاع والمشاركة في الحياة الثقافية عموما، عبر الكتابة الأكاديمية والمناقشة العلمية والمقالات الفكرية، ولعل الجمهور العريض قد تابعه عبر بعض الإطلالات التلفزيونية ضيفا على بعض البرامج الثقافية، في قناة الجزيرة (مسارات – الكتاب خير جليس) ولكن الجمهور المثقّف يعرف كتب الرجل وإسهاماته الرائعة سواء في الفلسفة الإسلامية أو في مقارعة الفلسفات الغربية (المدرسة الألمانية خصوصا) ترجمة ونقدا ومحاورة. ومن مؤلفاته الغزيرة " الإبستيمولوجيا البديل" و"منزلة الكلّيّ في الفلسفة الإسلامية" و"آفاق النهضة العربية"... وغيرها فضلا عن مقالاته الكثيرة، في المجلات والصحف التونسية والعربية والأجنبية، وقد أثار بعضها جدالا واسعا في صفوف المثقفين، وخاصة بنقده العميق والجذري للمثقفين العرب...

كما عرف عن أبي يعرب المرزوقي أنه – من بين آخرين من مفكّري المغرب كمحمد عابد الجابري وعبد الله العروي– أعاد قراءة المنجز الخلدونيّ بشكل راهن لا يقف عند التوصيف العلميّ، بل يتجاوزه إلى بيان "روح المعاصرة" في فكر الرجل، منافحا ضدّ من حاول تحجيم القيمة المعرفية لصاحب "المقدمة"، وقد استغللنا فرصة وجود الدكتور أبي يعرب المرزوقي في البحرين لإجراء حوار معه:

·                    1- بداية، مرحبا بكم في البحرين، ونود أن نعرّف جمهور القراء بطبيعة مشروع التفكير الفلسفيّ الذي تمارسونه، هل هو تراثيّ خالص؟ هل أنتم من أتباع المقاربات التوفيقية؟  ولماذا العودة إلى التراث بهذه الكثافة (ابن خلدون / ابن رشد / ...) هل هو استنجاد بالأسلاف وتصعيد للشعور بـ"اليتم الوجودي" والعجز عن مقارعة "صقور" الهيمنة العولمية؟

 

الجواب:

شكرا جزيلا. أسلّم جدليا أنّ لي مشروعا تعبّر عنه محاولاتي. وهو تسليم جدليّ لأحدّد موقفي من الخيار الذي وضعته أمام هذا المشروع المنسوب إلي الخيار بين التراثية الخالصة والمقاربات التوفيقية. ذلك أني أرفضهما كليهما. فالموقف التراثيّ بالمعنى المقصود في رأي المصنِّفين للمدارس الفكرية عند نخبنا الحديثة مستحيل في الفكر إذا كان فكرا.

والموقف التوفيقيّ ليس فكرا أصلا لاقتصاره على الجمع بين الجثث. من السخف تصوّر الفكر قابلا لأن يكون فكرا عند الاعتماد على تصورات من غير عصره. لا جرم فإنّه بوسع صورة الفكر ومادته ألاّ تكونا متعاصرتين إذا كان مضمونه مادة ميتة يعالجها بصورة غير مطابقة لها فتكون الصورة في قطيعة تامة مع المادة لأنها ليست مرحلة من مراحل تصورها كما يفعل المستشرق دارسا للفكر العربيّ الإسلاميّ. تلك هي خاصية كلّ فكر يدرس حضارة ميتة شأن الدراسة الإثنولوجية. تعلم أني لست إثنولوجيًّا. فلا أقف موقف الإثنولوجيِّ في علاجي لقضايا حضارتي التي لا أعتبرها ميتة بل هي عندي نبض الكون عندما ننفذ إلى أسرار حيويتها المبدعة وخاصّة في لحظته الراهنة.

وإذن فالموقف التراثيّ موقف ممتنع عندي: حضارتي حية والسائل فيها هو عين المسؤول حتى وإن كان شكل وعيه لاحقا يعود على مضمون وعي سابق. كما لا يمكن أن تكون محاولاتي مستندة إلى تناول توفيقي. وذلك لعلتين. فالموفق طرف ثالث متطفّل يأتي من خارج طرفي النزاع طرفيه اللذين يوفق بينهما. فلا يكون حكما نزيها مهما سعى إلى الإنصاف بل هو كما قال صاحب كتاب المثل العقلية الأفلاطونية واصفا الفارابي بتحقيق صلح من دون تراضي الخصمين. ثم إن الموفق لا يفكر بل يلفّق بين معان غائمة. ذلك أن الفهم يحول دون التلفيق لمجرّد وعي صاحبه بالفرق الدقيق.

محاولاتي التي أنفي قابليتها لأن توضع تحت اسم مشروع بالمعنى الذي بات معروفا في الأدبيات العربية الحالية تطلب الكلّيّ المتعالي على المقابلات التي تحوج المفكر إلى الموقف التوفيقيّ. إذا طلبت الكلّيّ استغنيت عن التوفيق بين الأجزاء المتنافية والمضطرة إلى التوفيق بالتلفيق. لكن رفضي الانتساب إلى النزعة التراثية لا يعني أني أقبل بسخافات من يتصور الفكر ممكنا من دون العودة التأويلية لماضي المبدعات الحضارية عودة تنطلق حتما من مغلقات مستقبلها كما يستقريها العقل من مشكلات حاضرها. فوصف قراءة بكونها تراثية له ضمير تحقيريّ مفهومه عند أصحابه أن العودة إلى الماضي هروب من دفق الحاضر واندفان في نفق الغابر.

وطبعا لا يمكن أن يقول بهذا الضمير التحقيريّ إلا جاهل بالفكر عامّة والفكر الفلسفيّ خاصة فضلا عن الفكر الدينيّ. فلم أسمع في حياتي عن نهضة فكرية عامّة وفلسفية خاصّة عند أمّة معلومة لم تكن بدايتها عودة تأويلية لبدايات نشأتها الحضارية من أجل فهم غايات مصيرها الحضاري وتحديد الطرقات الناقلة من الأولى إلى الثانية في التعيّن الرمزي أوّلا وفي التعيّن الفعليّ ثانيا. وأسخف ما في هذا الضمير أنّ أصحابه الذين هم في الأغلب أجهل خلق الله بالفكرين العربيّ الإسلاميّ والغربيّ القديم والحديث يسلّمون بأنّ النهضة الغربية كانت بفضل العودة التأويلية في العصر الحديث لمؤسسات الفكر اليونانيّ والرومانيّ وإبداعاتهما ونظرياتهما قبل العصور الوسطى لكنهم يتصوّرون العودة إلى مفكّرينا مؤسسات ونظريات وإبداعات نكوصا وظلامية.

 ثم هم يتجاهلون أو يجهلون - لست أدري - أنّ للفكر زمانية تخصّه تختلف تماما عن إيقاع الزمان الفلكيّ: فيمكن أن يكون أفلاطون أكثر حداثة من هيجل كما يمكن أن يكون ابن خلدون أكثر حداثة من ماركس. ذلك أن فكر أفلاطون وابن خلدون الاجتماعيّ والسياسيّ يُعدّان في لحظتنا أقرب إلى متطلبات عصر الكونية البشرية التي تسعى إلى تحقيق القيم الكونية بعدم الاقتصار على فكرتي روح الشعب العنصرية إثنيًّا وثقافيًّا أو نمط الإنتاج العنصريّ طبقيًّا واقتصاديًّا بعد أن تبيّن في المدارس النقدية أن للبعد القيميّ والرمزيّ المتحررين من العنصريتين في الوجود الإنسانيّ من الأهمية ما سبق إليه أفلاطون وابن خلدون وسها عنه هيجل وماركس في توظيفهما الإيديولوجيّ للفكر الفلسفيّ.

بعد هذا أعود متسائلا: هل يمكن استنباط مشروع مما حاولت إنجازه مشروع يمكن أن يكون معينا للجواب عن هذا السؤال ؟ لعلّ التأويلات التي حاولت تصنيفي والتي أشرت إلى اثنتين منها قد نسبت إلي مشروعات قابلة للانضواء في الأصناف التي نسبوا فكري إليها غصبا. لكني شخصيا ما زلت أتحسس طريقي لعلاج قضايا تعطي معنى لوجودي من حيث أنا ساع بالفكر إلى الخروج من الرمل المتحرك الذي نعيشه في وجودنا الطبيعيّ ككلّ البشر وفي وجودنا الثقافيّ الذي احتدم فيه العصف المزعزع للإدراك العقلي شرطا للتمكن الوجودي. وقد حاولت في حلقات "مسارات" أن أصف بعض محطات المنحنى الذي أعيه من مسعاي الفكريّ دون أن أكون واثقا من أن فكري يتحدّد بما أعي من محدّداته.

فإذا كان ذلك هو المقصود بالمشروع فهو كما أسلفت فيها مجرّد محاولة لتحديد فلسفة التاريخ القرآنية التي أراها متحكمة في كلّ ظاهرات الحضارة الإسلامية لأنّها مطابقة لفلسفة الدين الخاتم والجامع بين الدنيويّ ممثلا بفن أدوات الوجود الإنسانيّ في صلته بمتعاليات وجدانه (السياسة) والأخرويّ ممثلا بفنّ غايات الوجود الإنسانيّ في صلته بمتحايثات عقله (الدين).

 

·                     2- لم ظلّ المفكرون العرب، منذ عصر النهضة إلى حد الآن، يراوحون مكانهم: الإشكاليات مكررة/ آليات التفكير نمطية / الحلول الاستشرافية هلامية ... مما أنتج استشراء التبعية الثقافية بعد اكتمال دائرة التبعية العلمية والاقتصادية والسياسية، فما رأيكم؟ وهل ترون آفاقا لتجاوز الأزمة التي شخّصتموها ورأيتم أنها كامنة، بشكل كبير، في المثقفين أنفسهم؟ وإذا أصابت الأزمة طلائع المثقفين، فكيف يكون الحلّ؟

الجواب:

سؤالك "لم ظلّ..." يُسلِّمُ بـ"أنّ" هم ظلّوا...لكنهم يقدّمون المشروع تلو المشروع. ولما تحلّل هذه المشروعات تجدها من جنس ما يستورده أغنياؤنا ليتاجروا بخردة الغرب التي تبقينا زبائن  أغبياء بدل أن نكون تلاميذ نجباء كما قال المرحوم مالك بن نبيّ. تطلب مني تعليل الظاهرة لتسليمك بوجودها. وأنا أسلّم مثلك بأنّ فكرنا الذي هذا جنسه هو الذي يوطّد التبعية الثقافية مثلما توطّد نخبنا الاقتصادية تبعيتنا الاقتصادية ونخبنا السياسية تبعيتنا السياسية ونخبنا الذوقية تبعيتنا الذوقية إلخ...لمجرّد تجاهلهم شروط البناء السويّ في كلّ الحضارات البشرية شروطه التي هي كلّيّات العمران البشريّ. ولمّا كان همّ السعي إلى جبر الكسر بين ماضينا بحدثه ومعناه وبمستقبلنا بمعناه وحدثه من منطلق بؤرة الوجود الموحّدة لهذه الأبعاد الأربعة أصلا لها في تاريخ الأمة جبرا يمكّن من سريان النسغ الحيّ من عروق الحضارة إلى فروعها هو الأساس الحقيقيّ للفكر في كلّ الحضارات الحيّة حاولت ألاّ أتجاوز هذا المسعى وقَلَوْت المشروعات التي تتصور القراءة الماركسية أو الوضعية كافيتين لفهم أزمة الحضارة الإنسانية حتى وإن قنعنا بها للتعامل معها.

قد يرضى السياسي أو الإيديولوجي بما يمكن من التعامل مع الأشياء حتى ولو لم تكن مساعدة على فهمها. لكن الفكر لا يقنع بذلك إذا كان عبادة عملا بحقيقته التي هي طلب الحق. إنه يريد أن يفهم. ولا يمكن أن يفهم إذا بدأ فاعتمد النهج الذي يرد الوجود إلى الإدراك كما قال العلامة ابن خلدون فيحصر الموجودات في مداركنا مُلغيا بذلك كلّ المتعاليات وقانعا بالموقفين الأكثر سطحية في تاريخ البشرية:

1- فإما أن نعتبر العالم هو صورتنا عنه فنصبح من جنس دونكيخوت(Don Quichotte) نحارب الخيالات ونتخلى عن كلّ سعي لطلب ما يتعالى على خيالاتنا زعما أن الحقائق المتعالية سواء كانت روحية أو مادية مجرد أوهام ليس يمكن النفاذ إليها حتى لو سلّمنا بوجودها.

2- أو أن نعتبر الإنسان محجوبا عنه الحق والحقيقة فلا يستطيع أن يحيا إلا في ضلالة تأسيسا للسوفسطائية المحدثة أو فكر ما بعد الحداثة حيث تصبح كل ثقافة محارة منغلقة وتنتفي الأخوّة البشرية لكي يرتدّ التاريخ الثقافيّ إلى التاريخ الطبيعيّ الخاضع لمنطق الصراع من أجل الحياة.

لذلك فعندي أن أغلب المشروعات صارت سدّا أمام التفكير المبدع لأنها تردّ إلى هذين الموقفين ومن ثم فهي استيراد مآزق الفكر الغربيّ مآزقه التي تجاوزها هو وأبقى أصحاب المشروعات عالقين في شباكها. ولْأضربْ لك مثالين من هذا الأسر الفكريّ:

المثال الأول من الفكر النظريّ في مجال بناء الثقافة الحديثة. ففي الوقت الذي تجاوز فيه الفكر الغربيّ الوضعية والعقلانية الساذجة نجد مفكّرينا لم يتجاوزوا سذاجات قرني التنوير والعلموية قصدت القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وتلك هي العلّة التي تجعل البعض يبحث عن شروط استئناف الفكر المبدع في قراءات وضعية وعقلانية ساذجة للفكر الفلسفيّ العربيّ الإسلاميّ ليخلّصوا فكر أصحابه مما فيه من إبداع من أجل ما عند قرّائه من الإتباع. ولن أطيل القول في هذه المسألة فقد عالجتها في دراسة مفصّلة حول ثمرة القرن الأخير من الفكر الفلسفيّ العربي في حولية الأمّة التي أصدرتها الأخت الفاضلة نادية مصطفى مديرة مركز الدراسات الإستراتيجية بجامعة القاهرة.

المثال الثاني من الفكر العملي في مجال بناء الدولة الحديثة. فالغرب تحرر من أساسيها اللذين كانا ساريين قبل الحرب العالمية أعني القومية والعلمانية. فلا يمكن تصور الوحدة الأوروبية من حيث القيام الفعلي لو بقيت إيديولوجية الدولة القومية سارية في النظر العملي. ولا يمكن فهم توقف الوحدة عند الحدود الأوروبية لو كانت علمانية حقا. فحدودها حدود ثقافية في الظاهر وهي في الباطن دينية بدليل الاعتراضات على دخول تركيا وبدليل ما يعانيه المسلمون في أوروبا بدءا بما حصل من تواطؤ في حرب البلقان الأخيرة وختما بالجاليات الإسلامية فيهيا.

لكن الأهم في إثبات زيف الكلام في العلمانية هو الزعم بأن الأوروبين حققوا العلمانية بالفصل بين الدين والسياسية متناسين أن الدولة الحديثة أخذت كل الوظائف التي تؤديها المؤسسة الدينية من الكنيسة فصارت دولة جامعة بين الوظائف السياسية (الأمن الداخلي والخارجي وتنظيم شروط التبادل والتواصل) والوظائف الدينية (الرعاية الاجتماعية والتعليم والصحة الخ...) ولم تفصل بين الدينيّ أهمِ مصادر الغايات في العمران البشري، والسياسيِّ أهمِّ مصادر الأدوات فيه. ذلك أن الفصل بين السياسيّ والدينيّ مستحيلٌ رغم ضرورة الفصل بين المؤسستين: فالشرعية السياسية لا يكفي فيها الأمن وتنظيم شروط التبادل والتواصل بل لا بد من الرعاية الاجتماعية والتعليم. لذلك صارت الدولة جامعة بين الوظائف السياسية التي هي راجعة بالأساس إلى الأدوات، والوظائف الدينية التي هي راجعة بالأساس إلى الغايات: فالرعاية الاجتماعية والتعليم والصحة كلها مبنية على الأخوة الإنسانية وهي علاج لما ينتج من أدواء عن التنافس خلال التبادل والتواصل في العمران.

ولما كانت الثورة القرآنية قد تقدمت في تأسيس هذا الحل فإنها قد ألغت المؤسسة الدينية لئلا تدعي التوسط الروحيّ بين الله والإنسان وكلفت الدولة بوظائفها (الرعاية الاجتماعية والتعليم والصحة) بشرط أن تكون رعاية الأمر التي لا تتعالى عليها الدولة شورى بين المسلمين. فهذه الرعاية من فروض العين كما حدّدها القرآن الكريم ومارسها الرسول والخلفاء الراشدون وليست من فروض الكفاية كما صيّرها الاستبدادان اللذان أشرنا إليهما: استبداد العلماء في التشريع واستبداد الأمراء في التنفيد مع تبعية الأولين للأخيرين سواء كانت الأنظمة قبَلية أو عسكرية. وبدلا من التفكير في كيفية تجسيم هذه المؤسسات التي حدد القرآن مبادئها وشروطها وأخلاقها سلم المفكرون بموت قيم الثورة الإسلامية ظنّا منهم أنها هي المسؤولة وليس تحريفها، على ما تردّى إليه حال المسلمين وباتوا يبحثون عن حلول أدّت إلى الإفلاس الاقتصاديّ والسياسي والاجتماعي والثقافي.

 

 

·                    3- لماذا يشعر عموم القراء العرب بالعزوف عن الشأن الفكريّ، وكأنّ اليأس بدأ يدبّ في نفوسهم، نتيجة الخيبات المستمرة التي ابتلوا بها نتيجة رفع شعارات لم تثبت إلا فشلها في رفع رهانات التفوق الحضاريّ، فهل هي "نظرية المؤامرة" وقد تأبّدت؟ وكيف يتجاوز الخطاب الفكري العربيّ "جلد الذات" إلى "النقد العلميّ" البنّاء؟

الجواب:

أجيبك حول وجه المسألة العمليّ وجهها الذي قد يبدو بعيدا كل البعد عن مطلوب سؤالك. لكن القياس بين الوجه العمليّ الذي أعتمده للقياس والوجه النظريّ الذي تفكّر فيه لعلاقته بالعزوف عن القراءة يفهمنا أصلَ المسألة الواحدَ. حضرت مؤخرا في مؤتمر الإصلاح العربي الثالث في الإسكندرية. وكان الموضوع: تجارب التعامل مع عوائق المجتمع المدني. فكنت أسمع كلاما لم أكد أفهم منه شيئا. لكأن المتكلمين من خارج مجرتنا. كانوا يتحدثون في أغلبهم عن مجتمع مدني يحتاج إلى تمويل من الدولة الوطنية أو يبرّرون تمويله من الإمبراطورية الأمريكية وأوروبا. أدركت حينها أنهم يتكلّمون عن مجتمع مدني اصطناعي بديل من المجتمع المدني الذي لا يخلو منه عمران والذي هو غنيّ عن التمويل من الدولة الوطنية ومن الاستعمار لأنه هو عين قوام العمران ومادته.

وهذا المجتمع المدنيّ الحقيقيّ الذي يريدون تمويلَ بديلٍ منه لاقتلاعه من الجذور باسم التحديث المسيخ والمستبدّ يمتاز بكون المؤمنين به مستعدّين من أجل القيم التي يرعاها إلى حدّ التضحية بالنفس وليس بالمال فحسب. لذلك فهم لا يتكلمون عن هذا المجتمع المدنيّ الحيّ والطبيعيّ أعني الراعي الحقيقي للحقوق المعبرة عن المصالح المادية والمصالح المعنوية التي يحيا الإنسان بها ومن أجلها في العمران السويّ والتي يدافع عنها مثلما يدافع عن قيامه الذاتيّ بل هم يتكلمون عن البديل منه المستورد مثل كل مظاهر التحديث الاستبداديّ الفوقيّ. وهذا البديل منه هو المجتمع المدنيّ الغربيّ الذي يركبونه حصان طروادة لقتل ثقافتنا وإجهاض الصحوة. وكلّ ذلك لأنّ النخب لم تقم بما ينبغي لتطوير المجتمع المدنيّ الذاتيّ تطويرا مدروسا يجعله ينمو من ذاته ومتكلّما باسم القيم الكلّية التي بشّر بها الدين الإسلاميّ ولَمَّا يحقّق منها الفكر الإنساني في الغرب إلاّ القليل وخاصة ما تعلق منها بالوعي بالكليات المتعالية ممثلة بحقوق الإنسان التي هي عينها مقاصد كل شرع سويّ:

1- فمقصد العقل يعني حق حرية الفكر وليس مجرد الملكة النفسية.

2- ومقصد المال يعني حق حرية الملكية.

3- ومقصد العِرْض يعني حق حرية الكرامة.

4- ومقصد النفس يعني حق الحرية بإطلاق أو حق الحياة.

5- ومقصد الدين يعني حق حرية المعتقد كما حددته الآية 256 من سورة البقرة.

 لكن كلّ كيان اصطناعيّ يحتاج إلى عكازات تسنده في وقوفه الوهميّ. وهم يسمون ذلك معوقات المجتمع المدنيّ التي تقتضي مساعدة من أعداء الأمة تموّله حبّا في عيون العملاء. ثم هم  يبرّرون بهذه الحجج الواهية التمويل الأجنبيّ الساعي إلى تحطيم المجتمع المدني الذاتي ليستبدله بالمجتمع المدني المستورد. وتلك هي حال المجتمع المدني المسيخ الذي تموّله أمريكا وأوروبا.

ولنعد الآن إلى موضوعنا. قارن ما يحصل في مبيعات المطابع بين الكتاب الديني ومبيعات الكتاب المزعوم تحديثيا ذي السوق الكاسدة. وستجد الجواب. فالكتاب الكسيح هو الكتاب الذي لا يعتمد العلاج الفكريّ الحيّ فيطوّر الثقافة الأهلية حتى تصبح حاضنة للفكر المبدع بدل القطيعة واستبداله بغيره فعلهم في استنبات المجتمع المدني المسيخ الذي لا يلبّي حاجة فعلية يطلبها مجتمعنا بل يحقق أجندة يريدها أعداء الأمة. لو كانت الثقافة الحديثة ثقافة حية ومتأصلة أيا كان مجالها بما في ذلك ما اختار من الفلسفات معاداة الدين أعني كل مبدعات العقل الإنساني بكل أصنافها وبلسان قومها وبتناسق مع المؤسسات التربوية التي تنمي العقل والوجدان واللسان القومي لكانت السوق القرائية مستوعبة للكتاب الحديث و لكان هذا الكتاب غنيا عن طلب المعونة من الدولة أو من الاستعمار ليبيع بضاعته الكاسدة والفاسدة في خلاء ساحتنا الثقافية. أكتفي بهذا لئلا أتجاوز المباح.

 

·                    4- ما هي رهانات المستقبل بالنسبة إلى العرب والمسلمين، (ولعلّ هذا الوضع المتردّي ينطبق على سائر شعوب الإنسانية أيضا) إذا كنا مقتنعين جميعا بأن الحاضر ليس على ما يرام، رغم كثرة الغثاء والهتافات، هل تبصرون إرهاصات بتحولات في الأفق؟

                         الجواب:

فرضية عملي الفكريّ لتحديد رهانات المستقبل الإنسانيّ وليس الإسلاميّ فحسب ينبغي أن تستقرأ من فلسفة التاريخ القرآنية المطابقة لـفلسفة الدين الإسلاميّ. وينبغي مبدئيا أن تكون هذه الفلسفة فلسفة التاريخ الكامنة في كل الحضارات وفي كل الأزمان وإلا كان الإسلام ليس الدين الخاتم. ولكي نبرهن على صحة هذا المبدأ فلا بدّ من بيانه لكلّ عاقل سواء آمن بالقرآن أو لم يؤمن لأنّ كليتها توجب أن تصدق حتى عند نفاتها لأنّ نفيها غير ممكن من دونها إذ هو يعتمد على بديل مشوّه منها، فتقدم العولمة الإسرائلية الأمريكية بديلا مشوّها من الكونية العربية الإسلامية، وبذلك يتبين أنّ رهان اللحظة التاريخية الحالية ليس وليد الصدف: ليس صراعنا مع من نصّبه الغرب قائدا لقوته المادية المتوحشة (أمركيا) ومن نصّبه قائدا لقوته الروحية المنحرفة (إسرائيل) من الصدف، بل هو عين التلاقي بين فلسفتين في التاريخ وفلسفتين في الدين؛ الأولى من كلتيهما تعتمد على العنصرية المادية والروحية الثانية، على السعي إلى تحرير البشرية منهما.

فالرسالة الإسلامية تدّعي الكونية والختم. ولا يمكن أن تكون كونية وخاتمة إذا حصرنا قيمها في خصوصية حضارية أو دينية صالحة لعصر دون عصر. فتكون مثلها مثل غيرها من التصورات الخصوصية مجرد إيديولوجيا لشعب بدائيّ تنتسب إلى جنس الأسطورة.  ولست أجهل أنه يوجد قبالة مثل هذا القول حُكْمان مسبقان يعلم الجميع ما لهما من سلطان قاهر على الوسط المثقف في لحظتنا العربية الرديئة أشار إلى علّته شيخ الإسلام ابن تيمية لَمّا قال إنّ الأمم تنحطّ بسبب فكر الأنصاف: فنصف الفقيه يفسد البلدان، ونصف الطبيب يفسد الأبدان، ونصف النحويّ يفسد اللسان، ونصف المتكلّم يفسد الأديان. ونحن نضيف: نصف المثقف يفسد الفُرقان المشروط في صلاح البلدان والأبدان واللسان والأديان.

فأما الحكم المسبق الأول فهو مبدأ الفكر الحديث المزعوم أي الفصل بين النقل والعقل لتنافيها.

وأما الحكم المسبق الثاني فهو مبدأ الفكر ما بعد الحديث المزعوم  أي نسببة الحقيقة والقيمة.

والزعم الأول من الخرافات التي تنتسب إلى ماضي الغرب الذي يقلّدونه ماضيه القريب أو فكر الحداثة. ذلك أن هذا التمييز نفسه يمكن للمرء أن يسأل عنه أهو نقليّ أم عقليّ؟ ثم كيف يمكن لمعرفة عقلية أن تكون خالية من النقل ثم تكون علما لموجود وليس مجرّد خيال؟ أليس المضمون العلميّ المستمدّ من التجربة الحسية من النقل، حتى وإن من جنس مغاير للنقل في معناه الدينيّ: النقل هنا يعني ما ليس مستمدّا من العقل من معطيات الموضوع التي هي غير علاجها العقليّ. ثم أليس الشكل العلميّ المستمدّ من العلاج العقليّ للمضمونات النقلية الدينية.

فلا يكون التقابل بين النقل و العقل تقابُلا يتصف بالإطلاق الذي يقتصر عليه متبلدو الفهم بل هو تقابل بين نوعين من المضمون النقليّ للمعرفة الإنسانية: أحدهما يصدر عن التجربة الحسّية في كلّ العلوم الطبيعية التي ذروتها فلسفة الطبيعة وما بعدها؛ والثاني يصدر عن التجربة الذوقية في كل العلوم الروحية أو الإنسانية التي ذروتها فلسفة التاريخ والدين وكلاهما يمدّان العقل بمضموناته؟ ما حيلتي إذا كان بعض المثقفين فاقدين للذوق، فلا يفهمون الصلة بين الفكر الدينيّ التاريخيّ وما بعد التاريخيّ ومناهج علوم الإنسان التأويلية حاصرين الإدراك في الحس والصلة بين الفكر الفلسفي الطبيعي وما بعد الطبيعي ؟ أتراهم فاقدين للإحساس اقتصارا  على الحس؟ هل ينفون وجود ذواتهم ومداركها لمشاعرها لمجرد كونها ليست من المسحوسات؟

أمّا الزعم الثاني فهو من أوهام السوفسطائية المحدثة أو فكر ما بعد الحداثة. فهذا الفكر يزعم أصحابه أن الثقافات جزائر  لا تتواصل بل هي أرخبيل وجوديّ لا يمكن للمرء أن يخرج من محارة ثقافته ليتواصل مع الثقافات الأخرى. وهم بذلك ينفون الكليات المتعالية على الجزئيات الثقافية. لكنهم لا يتدبّرون ما يترتب على ذلك لو صحّ ترتّبا يُثبت وَهْيَه. فلو صح أن المرء لا يستطيع أن يخرج من ثقافته ليتواصل مع غيره لدلّ ذلك على امتناع تواصله حتى مع ذاته فضلا عن الغير في ثقافته بمجرّد اختلاف الزمان والمكان.

فلا يستطيع الفرد الواحد أن يتواصل مع ذاته بين زمانين مهما اقترب أولهما من ثانيهما ومع غيره بين مكانين مهما اقترب أحدهما من آخرهما فضلا عن التواصل بين الأجيال المتوالية والجهات المتساوقة بمقتضى كون المسافة الزمانية والمكانية من اللامتناهي غير القابل للعد لأنهما من جنس الكم المتصل. والمعلوم أن المرء في علاقته بثقافته يكتسب القدرة على التواصل بأدواتها وليس يرثها بالمعنى العضويّ للوراثة: الثقافة من المكتسب الحضاري وليست من الموروث الحيويّ. فكيف يستطيع المرء أن يدخل ثقافته للمرة الأولى ليكتسبها لو كانت الثقافة محارة يمتنع الخروج منها ؟ وكيف نستطيع أن نفهم الثقافات المنقرضة بتأويل آثارها ولا نستطيع أن نفهم الثقافات الحية رغم تصاحب الآثار وأصحابها الأحياء ؟

لا بدّ إذن أن توجد كلّيات تشترك فيها الحضارات والثقافات وتتعالى على التاريخيات فيها وإلاّ لكان التواصل بين المتوالين من نفس الثقافة والمتساوقين من الثقافات المختلفة بل وتواصل المرء مع نفسه ممتنعا: وهذه الكلّيات المتعالية هي الفطرة المشتركة التي تجعل البشر قادرين على التواصل بالآيات والرموز المتعالية على تعدد الألسن التي هي بدورها ليست من الحواجز بدليل قابلية المقول اللسانيّ للترجمة. لذلك فنحن نعتبر البيان الذي علّمنا إياه الرحمن أسمى من اللسان كما بينا في كتاب "الشعر المطلق والإعجاز القرآنيّ".

وحتى أبرهن على هذه الحقيقة التي لا أنفي أنها في البدء وقبل إثباتها حقيقة دينية إيمانية وأجزم أنها ستكون في الغاية وبعد البرهان عليها حقيقة فلسفية عقلية صالحة لكلّ الحضارات شرعت في المحاولات المتواضعة - التي أشرت إلى بعضها مشكورا - والتي سعيت فيها للجواب عن هذا السؤال المتعلق بأزمة الحضارة الإسلامية بعد تعميمه ليشمل كل البشر إذ إنّني لا أعتقد أنّ المأزوم هو المسلمون وحدهم بل هو كل البشرية في عصرنا وأن الحلّ يمكن أن يشارك فيه المسلمون من منطلق الأفق المبين القرآنيّ الذي حدد الكلّيات التي أشرت إليها، جسورا بين الحضارات والكائنات بشرط أن يفهم فهما تنيره البصيرة الجامعة بين الوجدان والفرقان. وقد انتخبت في سعيي إلى هذه الغاية سبيلين قد تبدوان متناقضتين:

أولاهما تستقرئ منطق فلسفة التاريخ من مقوّمات تاريخ الفلسفة، كما حاولت ذلك في كتاب "وحدة الفكرين الديني والفلسفي" وفي كتاب "شروط نهضة العرب والمسلمين".

والثانية تستنبط منطق فلسفة الدين من المقوّمات التي تحدّد خلال تاريخ الفكر الإسلاميّ كما حاولت ذلك في رسالتي التي كان موضوعها منزلة الكلي في الفلسفة: الكلي النظري والكلي العملي ونتائجهما في فلسفة المنطق والرياضيات نظريا وفي فلسفة التاريخ والسياسيات عمليا معتمدا على تحليل أعمال فيلسوفي النهضة والصحوة قصدتُ ابن خلدون وابن تيمية.

وكان الاكتشاف في الحالتين فوق ما توقّعت. فقد تبيّن أنّ بنية الفكر البشريّ التي كانت غير واعية قبل الثورة الإسلامية هي البنية الواعية التي استخرجها الفكر الإسلاميّ بحدوس تقارب فلسفة الدين والتاريخ القرآنيتين. وهي ما أطلقت عليه اسم الحنيفية المحدثة دينيا والأفلاطونية المحدثة فلسفيا. فكلاهما يخضع لنفس البنية الفكرية الساعية إلى إدراك هذه الكلّيات الواصلة بين البشر والتي يمكن اكتشافها في الفلسفة اليونانية والعربية اللاتينية والألمانية، كما حاولت بيانها في الجزء الأول من الرسالة بعنوان "منزلة الكلّي أو تجلّيات الفلسفة العربية" وأبرزت صيغتها النقدية العربية الإسلامية عينيا عند ابن تيمية وابن خلدون في الجزء الثاني من الرسالة بعنوان "إصلاح العقل في الفلسفة العربية". فكلاهما يطلب هذه الكليات بنظرية النقد المنطقيّ الغالب على الأول والنقد التاريخيّ الغالب على الثاني، لتحقيق معيار التلاقي الغائيّ بين أصل النقل (فلسفة الدين) وأصل العقل (فلسفة التاريخ) أعني التطابق بين صريح المعقول وصحيح المنقول بعلم مُتعال على التقابل بينهما، هو علم النقد المعرفيّ للشكل العلمي (المنطق) والمضمون العلميّ (التاريخ).

لكن محاولاتي هذه لا يمكن أن تُعد مشروعا شخصيا بالمعنى الذي يقصد عند الكلام على المشروعات الفكرية وصفا لأعمال النجوم من المثقفين العرب. فأنا لم أصر به نجما ولله الحمد والمِنَّة. وحمدي لله لا ينقطع لأنّ أسلوب الكتابة الذي وفّقني الله إليه يحميني من هذا التردّي البغيض. إنّما هو اكتشاف هداني إليه أمرٌ لست أدري طبيعته ما هي، لأنه لم يكن مشروعا قصديا بدأت به كما يفعل الفكر العجول (يتزببون وهم حرمص) عند المثقف الكسول (لايكادون يقرأون) والنجم الأكول (انظر إلى موائد ندواتهم أو إلى بطونهم مشروبا ومأكولا). كلّ ما أدريه هو أني أشعر بأنّ فوضى فكرنا بكل أبعاده مثله مثل واقعنا  فوضى خانقة وأنّ الفكر العربيّ الإسلاميذ لن يبدأ بداية فعلية إلاّ بمحاولات الخروج من هذا الرمل المتحرك بكلّ الوسائل: عملي محاولة للخروج من الرمل المتحرك وبؤرته تخبط المشروعات الحالية المشروعات التي لم تتجاوز قشور الفكر الغربي الحديث والمعاصر قشوره التعليمية دون أعماقه الوجودية.

فكان أن بدأت بأبسط البسائط: لا يمكن أن أفهم الماضي الحيّ أعني ما يمكن أن يبنى عليه فهم المستقبل إذا بقيت غارقا بين أمواج الحاضر ولا يمكن الطفو في المحيط الوجوديّ من دون التمكن من أسرار الفكر الإنسانيّ، كما تعيّن في فلسفة التاريخ وفلسفة الدين تعيّنا يمتنع عليّ أن أراه من غير مراحل سعيه لرؤية نفسه. أسراره هي عندي أسرار بداية فكرنا وأسرار غايته، فكان عليّ أن أسعى ما استطعت إلى ذلك سبيلا إلى فهم أسرار الغاية في الفلسفة الألمانية وأن أعود إلى أسرار البداية في الفلسفة اليونانية تاركا لماضغي العلك الإيديولوجيّ النجومية المستمدّة من المشروعات التبسيطية التي حوّلت الفكر إلى جنس وحيد من الفكر لا يتجاوز التقريب الجمهوريّ في المقال الصحفيّ زعما بخوفهم على الشعب ألاّ يحمل ما لا يطاق لأنّ كلّ غوص إلى الأعماق عندهم عديم الفائدة بل هو مجرّد إرهاق. عجبا هل يمكن للمرء أن يفهم حضارة حاورت أفلاطون بداية وحاورها هيجل غاية دون النظر المتسامي بالجهد المترامي؟

فآل الجمع بين محاولة فهم البداية ومحاولة فهم الغاية من منطلق ما ألغته نزعة الوصل بينهما في فلسفات التاريخ التي تحرّك من يريد أن يقفز على دور الحضارة العربية الإسلامية فيه إلى إبراز أمر عجب: الفلسفة العربية الإسلامية تستمد معناها الحقيقي من كونها قد كانت لحظة الوعي الكوني بالمبدأ الموحد بين أسرار البداية وأسرار الغاية, البداية والغاية اللتين أغفلتا مبدأ هذه الأسرار. ومن ثم فالفكر العربيّ الإسلاميّ بمعناه الشامل لمخمس فنونه النظرية والعملية (الكلام والفلسفة نظريا والفقه والتصوف عمليا وأصل الكل أو التناظر التشاكلي بين القرآن والوجود) قد أكتشف النبض الحيّ للفكر الإنسانيّ ليس في الدين وحده (كونية الاتصال بالمطلق بمعنييها: لكل أمة رسول بلسانها وليس لليهود وحدهم، ثم الرسالة الخاتمة للجميع) بل وكذلك في الفلسفة كما بيّن ابن خلدون في مدخل بحثه في علم اجتماع العلوم أنّ العلوم العقلية هي ثمرة خبرة العقل الإنساني من حيث هو إنساني ولا علاقة للفروق الثقافية فيها إلا من حيث درجات نضوج الشروط الحضارية لإنتاجها: إنها كلّيات التقويم الخمسة التي يمكن استقراؤها من تاريخ العمران البشري وتأييدها بما حددته سورة يوسف تحديدا جعل القرآن الكريم يصفها بكونها أحسن القصص. فالقصّة كلها تدور حول قيم الذوق (الجمال) وقيم الرزق (علة تردّد إخوة يوسف على مصر) وقيم النظر (تأويل الأحلام والتخطيط للمستقبل) وقيم العمل (وزارة يوسف) وقيم الوجود المتعالي (ما حال دون يوسف والاستجابة لامرأة العزيز). فالتطابق بين أسرار البداية وأسرار الغاية الحاصل فيها هو مبدأ الحياة الفكرية ببعديها الدينيّ تعبيرا عن الوجدان، والفلسفي تعبيرا عن الفرقان، في صلة التعبير بشرائع العمران الخلقية والاجتماعية وشروطه الطبيعية والتاريخية، وكلها تعود إلى أصناف القيم التي ذكرنا.

ولما كان مبدأ حياة الفكر الإنسانيّ هو التطابق النبضي بين بدايته وغايته في وحدته الحية الأبسط أو زمانه الفرد الذي يتكرّر طيلة مدته فتتقوم به حياته الممتدة ما كان لها مدد يعطيها أمدا زمانيا يناسب طاقتها الحية صار النبض الجامع بين السرّين هو التعبير عن هذه الكلّيات وشرائعها وشروطها. فإذا وجدت أمّة لها رسالة تجعلها ناطقة باسم الكليّ الفرقانيّ والوجدانيّ بهذه المعاني، كان ذلك كافيا للدلالة على أن مبدأ وجودها هو عين رسالتها وهو عين قوام عمرانها الذي هو المثال الأعلى لكلّ عمران: إنه النبض الدائم في العمران البشري والاجتماع الإنساني بمصطلح ابن خلدون. وهي لا تجعلها بصورة خبرية غير مشروطة كما يتصور مؤوّلوا الآية 110 من آل عمران حول خيرية الأمة بل هي تحدّدها جواب شرط متقدم هو مضمون الآية 103 من نفس السورة.

وليس أدلّ على تحقق هذا التطابق في الدين الإسلامي من فروضه الخمسة من حيث هي رامزه إلى أصناف القيم التي حددنا:

1-                                        فقيم الذوق رمزها الصيام إذ ليس أفضل منه إرهافا للذائقة بكل معانيها.

2-                                        وقيم الرزق رمزها الزكاة إذ ليس أفضل منها شعورا بدلالة الرزق الرمزية من حيث إنّ مثال الرزق الأعلى هو أن يكون آصرة أخوة بالمقابل مع واقعه الذي يجعله علّة الصراع بين الأحياء.

3-                                        وقيم النظر رمزها الصلاة إذ ليس أفضل منها دلالة على التجرد للتدبر والتأمل.

4-                                        وقيم العمل رمزها الحجّ إذ ليس أفضل منه رمزا للتجربة المحمدية في الحكم السياسيّ المشدود إلى مابعده القيميّ.

5-                                        وأخيرا فالشهادة ليس أفضل منها رمزا لقيم الوجود لأنها عين التعالي على الفاني والسموّ إلى الباقي.

فكيف يمكن عندئذ أن أكتشف أسرار هذا النبض الدائم ؟ الجواب حسب رأيي بسيط: لا بد من طلبه من القرآن الكريم بهدي من تأويله الأول كما مارسه مبلّغه (السنة الشريفة) تأويله بمعنيي التأويل أي فهمه الأول وتحقيق فهمه الأول نموذجا بطريقته (شرعة) ومنهجه (منهاجا) لكل فهومه وتحقيقاته المتوالية إلى ما لا يتناهي وأن أقيس عليه فهم كل أباديع الفكر الإنسانيّ في مجال التقويم الخمسة: الذوقي والرزقي والنظري والعملي والوجود التي تعدّ الفروض الإسلامية صيغتها المثلى. ذلك هو سبب عودتي إلى دراسة القرآن الكريم. طبعا لا أزعم اختصاصا في التفسير ولا في النقد الأدبيّ المشروطين في تحقيق هذا المطلب. لكنّ القرآن هو النصّ الأول والأخير في حياتي رغم اختصاصي في الفلسفة اليونانية عامّة والأرسطية خاصة. وقد خصّصت أكثر من عقد لدراسة البلاغة العربية وفنون النقد عند العرب واليونان والألمان لعلّي أدقق فهمي للكلّيّ القرآنيّ.

كان عليّ أن أجيب عن السؤال التالي: كيف يمكن أن يكون القرآن الكتاب الخاتم لكل البشر بل ولكل الكائنات وهو بلغة بعض البشر فضلا عن منطق الكائنات غير البشرية (منطق الطير مثلا) ؟  ومن التوفيق الإلهيّ أني وجدت أن هذا السؤال جوابه هو ما توصّل إليه بحثي سابقا رغم كونه قد كان بحثا فلسفيا خالصا لم يتقدّم عليه الدافع الدينيّ: ينبغي أن يكون ما يدركه العقل الإنسانيّ مما هو موجّه إليه في خطاب القرآن الكريم هو التعبير المطلق عن كلّيات الوجود الإنساني في صلته بالوجود الكوني وأن يكون ذلك قابلا للترجمة إلى كلّ اللغات. لذلك كانت أداة الإعجاز فيه هي عينها مقوّمات معنى الإنسانية في الإنسان: البيان غير المقصور على اللسان. فالقرآن مُعجز من حيث هو أفق مبين لكلّ الكائنات أيّا كانت خاصياتها التواصلية كما يبين ذلك الإمام أبو حامد الغزالي في شرحه لمعاني النور. وهو كذلك خاصة للكائن الذي جوهره ما علّمه إياه الله من بيان اجتمعت صنوفه في كل ضروب الوحي الذي يخاطب كلّ الكائنات ولا يقتصر على الإنسان فضلا عن الأنبياء.

وليس البيان بهذا المعنى فعل تعبير فحسب، فعلا ظنه البعض دون العرفان فضلا عن البرهان، بل هو كذلك انفعال تلقٍّ يدرك معاني الرموز والآيات التي تتعالى على تعيُّن المكان وتحدُّد الزمان: فالبيان من حيث هو تعبير فعل رامز بكل أدوات التعبير ومن حيث هو فهم للآيات بصيرة تعي كل ما ينتأ من معان في الأفق المبين ومن ثم فهو انفعال بالحقّ أو تلقٍّ للحقيقة في كلّ تعيّناتها. ولولا ذلك لامتنع العلم الذي هو قراءة لآيات الكون في لغتها الرياضية أعني قوانينها التي تبرز في مجراها المنتظم، ومنه يستمدّ القرآن كلّ أصناف التذكير والتدبير. فإذا أطلقنا على الفعل اسم الفرقان وعلى التلقّي اسم الوجدان، تطابق الأمران، فكان الخطاب الغائي بلغة الوجدان خطابا يتطابق فيه فعل الفرقان وانفعال الوجدان، ومن ثم فلا بدّ أن يكون الدين الذي إعجازه مبنيٌّ على هذا التطابق، دينا خاتما لكونه مؤسّسا لفعاليتي البيان بمستوييهما ضمن الأفق المبين: الاجتهاد للنظر بديلا من السلطة الروحية التي تتوسط بين الإنسان ورزقه الروحيّ والجهاد للعمل بديلا من السلطة الزمانية التي تتوسط بين الإنسان ورزقه المادي لزعمهما التوسط بينه وبين ربه. وهما يكوّنان فرديا إيمانا بالحقيقة وعملا بالحق ويكوّنان جماعيا تواصيا بالحق للنظر أو الاجتهاد الإجماعيّ وتواصيا بالصبر للعمل أو الجهاد الإجماعيّ. 

لكنّ المسلمين لسوء الحظ أهملوا هذه المبادئ فلم يترجموها إلى مؤسّسات تمارس فيها الأمة ولاية الأمر النظريّ (الاجتهاد العامّ في كلّ المعارف وليس المقصور على الفقه) والعمليّ (الجهاد العامّ في كل الأعمال وليس المقصور على القتال) ولايته التي هي شورى بينهم، فرض عين. أعاد استبداد العلماء سلطة الرزق الروحي التي ألغاها القرآن في شكل متنكر هو سلطة العلماء ( سواء كانوا فقهاء الشرع المنزل في الأنظمة التي تدّعي الحكم باسم النقل أو فقهاء الشرع الوضعيّ في الأنظمة التي تدّعي الحكم باسم العقل) وأعاد استبداد الأمراء سلطة الرزق المادّي التي ألغاها القرآن في شكل متنكّر هي سلطة الأمراء (أمراء القبائل أو أمراء العسكر) ظنّا منهم أنهما المقصود بأولي الأمر من المسلمين في آية الطاعة الشارطة لكلّ عمران سويٍّ. فأصبحت الأمّة عامّةً  أو ماشيةً يرعاها المستبدُّون بوصفهم الخاصّةَ، حتى كادت شروط الشهادة على العالمين أن تنتفي وكاد النبض الحيّ أن ينتهي.

 

 

 

Enter supporting content here

هذا موقع صابر الحباشة